الخميس، 22 أكتوبر 2009

الانتخابات التونسية ... المهزلة المتكررة

لا زالت الانتخابات لم تجر بعد في البلاد ولكن نتائجها باتت معروفة مسبقا لدى كل التونسيين والمراقبين المتابعين لسلوك النظام الحاكم طيلة الحملة الانتخابية والاسابيع التي سبقتها. لم تحصل المعجزة التي كان يحلم بها البعض (معجزة الانفتاح النسبي واحترام الشكليات)، ولن تحصل، لأن الخلل بنيوي وعميق ولأن ميزان القوى بين السلطة وقوى المجتمع الحية لا زال مختلا لصالح الأولى، كما لايزال الضغط الخارجي من أجل احداث حدود دنيا من الانفراج والاصلاح ضعيفا أو ربما منعدما تماما.
وصمة عار جديدة هي بصدد الاضافة الى سجل بلادنا، وأغلب التونسيين مشدوهون يتابعون الأوضاع بكثير من الأسى والاحباط والخجل. ولا عجب أن يخجلوا ونخجل جميعا لأن فصول المهزلة فاقت حدود التصور والتحمل. وفيما يلي غيظ من فيضها.

1ـ اخراج ردئ لمسرحية عفا عنها الزمن

لم يكن لدى المتابعين الذين يعرفون النظام التونسي جيدا وهم أن تكون هذه الانتخابات مختلفة في النتيجة عن سابقاتها في تاريخ البلاد الحديث. غير أن الكثير منهم توقع أن تغير السلطة من تكتيكاتها هذه المرة وأن تعد لعبتها جيدا حتى لا تقع في الأخطاء والفضائح التي وقعت فيها في المرات السابقة، خصوصا وأن هرم السلطة والمقربين منه انطلقوا في الاعداد لهذه المسرحية الانتخابية منذ زمن طويل. وكلفوا لاخراجها فريقا من الأمنيين والقانونيين والسياسيين والدوائر النافذة أطلقوا يده منذ أول يوم في موارد الدولة وامكانيات الادارة، وأعطوه بطاقة بيضاء للتعامل مع مختلف الفاعلين والمفعول بهم بكل الأشكال المناسبة ترهيبا وترغيبا، ضمانا للولاء أو دفعا للبلى.
وقد حدد لهذا الفريق من المخرجين هدف شديد الوضوح غير قابل للتأويل وبدون أي هامش للتصرف. فاجتهدوا كيفما يقدرون، وفتحوا أرجلهم بأكثر مما يقدرون ليصلوا طرفي موازنة مستحيلة شعارها: ضمان النتيجة مع المحافظة على الديكور.
غير أن ما خفف الوطأة عنهم وجود قاعدة ذهبية للتحكيم عندما تتشابك الأمور، شعارها: أولوية النتيجة على الديكور، مع التعويل على الزمن كي ينسى الناس ويتعودون وتستقر الأوضاع كما خطط لها دون تنغيص أو حاجة لتنفيس ..
ولكن رغم الاستعدادات والامكانيات والجنود المجندة، لم تخرج المسرحية حتى الان، ولن تخرج، عن المنتظر المألوف الذي يمكن أن يتنبأ به أي مواطن عادي: كل شيء فيها معروف مسبقا: الأبطال والكومبارسات والادوار المختلفة .. وموقف الأبطال من الطامعين والمشاغبين والمترددين .. وفكي التنين المشرعة على المناوئين الساعين لافساد الحفلة واثارة الفتنة. ولم يبق في علم الغيب الا موقف الجمهور من مسرحية بهذه التفاهة واخراج بهذه الرداءة، هل سيقاطعونها بكثافة كبيرة كما ينتظر، أم أن الخوف سيقود أعدادا منهم الى مسارح التصويت كما يفعل عادة في مثل هذه المناسبات.

2ـ هل هي انتخابات حكم أم انتخابات خلافة؟

عودوا الى كتب التاريخ وتجارب الأمم ولن تجدوا موقفا انتخابيا أشد غرابة من الذي تعيشه بلادنا هذه الأيام. ففي الوقت الذي تستعد فيه حثيثا للتجديد للمرشح لخلافة نفسه في ظل صخب اعلامي وغطاء سياسي ونداءات وتحالفات والتحاقات (شملت حتى الطامعين من الضحايا السابقين)، ينسحب هذا البطل الأوحد فجئيا من المشهد، ويتقلص حضوره، وتشتد الريبة حول مصيره، مع بروز مؤشرات متواترة على فقدانه للسيطرة على المافيات صنيعة يده، وعلى احتدام صراع الأجنحة لخلافته، ومع سيل الشائعات المتعددة حول المؤمرات التي تحاك على الزعيم الحاضر الغائب من داخل قصره وحول الصفقات التي تعقد من وراء ظهره ..
فأي وضع سريالي هذا : رئيس ينتخب بنسبة تقترب من الاجماع ولا أحد يدري ان كان سيحكم غدا، أم أن صفحته ستطوى قريبا انتزاعا أو ضغطا أو اضطرارا.

3ـ غياب الناطق الرسمي والخوف من تمثيل النظام

في كل الدكتاتوريات عبر التاريخ يحتكر الدكتاتور تمثيل الدولة والكلام باسم الحزب الحاكم، ولا يسمح عادة لوجوه أخرى بالبروز الشديد وملء الساحة مهما كانت درجة وفائها له.
أما في بلادنا فاننا نعيش وضعا شاذا يكاد لا يكون له نظير ... فدكتاتورنا لا يتقن فن الكلام، ولم يعرف التونسيون عنه يوما أنه تكلم من غير ورقة أو كتب مجرد فقرة ناهيك عن المشاركة في ندوات صحفية أو حوارات تلقائية ..
ومع ذلك اعتمد منذ وصوله للحكم قبل 22 سنة سياسة تكميم الأفواه من حوله، تحجيما لطموحات معاونيه المقربين، ومنعا لإضفاء أي شرعية تمثيلية أو سلطة تقديرية لأي من وزرائه أو مستشاريه. وقد أنتج هذا الوضع أمرا واقعا غريبا لنظام أبكم يتهرب كوادره من الكلام خوفا من البروز الذي قد يثير حفيظة الزعيم الأوحد، وخشية من الخروج ولو قليلا عن المرجعية التي يحددها القائد الملهم والأجهزة الاستشارية والامنية التي تنال ثقته وتعمل تحت ظله.

وأمام الحاجة الماسة لحدود دنيا من الحضور الإعلامي، الخارجي أساسا، للدفاع عن خيارات النظام والتهجم على معارضيه وصد الهجمات المتزايدة التي تأتيه من كل صوب، اعتمدت السلطة سياسة التمثيل غير الرسمي المرتكز على بعض الوجوه ذات حدود من الكفاءة الاعلاميه ومن القدرة على المراوغة واتقان اللغة الخشبية، وتكليفها بمهام محددة دون أي هامش للاجتهاد والتصرف. وتحرص هذه الوجوه دوما، للأسباب المذكورة أعلاه، على دفع "تهمة" تمثيل النظام بكل قوة. وفي هذا الصدد لا يفوتني التذكير بالموقف الطريف الذي حدث منذ أيام خلال ندوة حول الانتخابات التونسية نظمتها جمعية طلابية بمعهد الدراسات السياسية بباريس وحضرها مع ممثلي المعارضة الوطنية بعض المكلفين بمهام اعلامية وامنية من قبل النظام التونسي، حيث احتج أحدهم بشدة على عبارة "قريب من النظام" التي اعتمدها أحد المنظمين للتعريف به، مؤكدا أنه يعتبر نفسه "قريبا من الطبيعة ومن الحيوانات .. لا قريبا من النظام" !!
ولعل كل ما سبق يقدم لنا عناصر لتفسير السياسة الاعلامية للنظام القائم خلال هذه الانتخابات المبنية على ملء المشهد الاعلامي بالمكلفين بالمهام مع اجتناب السقوط في فخ الحوارات المباشرة أو التصريحات التلقائية التي تفترض دوما حدودا من هوامش التصرف لا يمتلكها في البلاد غير هرم النظام.

4ـ المشاركة في اللعبة المغشوشة ... لاثبات أنها مغشوشة !

في أغلب بلدان العالم التي يمارس فيها التزوير الانتخابي وتنتهك فيها ارادة الناخبين، ينقسم موقف الأطراف السياسية المعارضة عادة بين توجهي المشاركة طمعا في الحصول على فتات الموائد، أو المقاطعة ورفض المشاركة في تزييف الارادة الشعبية.
أما في بلادنا فينضاف الى هذين الموقفين الواضحين موقف ثالث يسميه اصحابه موقف المشاركة الاحتجاجية الذي تمارسه وتدعو اليه أحزاب وقوى يضم بعضها خيرة المناضلين الذي لا يشكك أحد في وطنيتهم واخلاصهم. والهدف المعلن من موقف البين ـ بين هذا استثمار هذه اللعبة للوصول للناس، حيث تنعدم فرص التواصل في الأيام العادية، ثم كشف خور الانتخابات واظهار زيف الادعاءات بالتعددية والشفافية. غير أن بعض المشككين يضيف الى هذه الأهداف أخرى أقل نضالية كالحصول على المنح المادية التي تهبها الدولة للقوائم المشاركة والحرص على عدم قطع شعرة معاوية مع نظام يعتبر المقاطعة خطا أحمرا لا يسمح للأحزاب "القانونية" تجاوزه.
وبقطع النظر عن أهداف تلك الأطراف وتخطيطاتها، فان الواقع يثبت أن النظام يمتلك وحده خيوط اللعبة الانتخابية حيث يستثمر في كل مرة مشاركتها "الاحتجاجية" بأقصى قدر ممكن لتزيين الديكور واضفاء الشرعية والتعددية الوهمية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، وفي نفس الوقت يضع الحواجز والعراقيل أمام تلك القوى لحرمانها من التواصل مع المواطنين ومنعها من تحويل المشاركة ـ الديكور التي يريد الى مشاركة حقيقية.
وهكذا تجد تلك الأطراف نفسها كل مرة مضطرة في اخر المطاف اما للانسحاب بكف فارغة وأخرى لا شيء فيها عدى الصراعات الداخلية والخلافات مع بقية مكونات الساحة الوطنية المعارضة، واما مواصلة المشاركة في المهزلة الى النهاية وقبول كل التنازلات المهينة التي تفرضها سلطة حريصة على النتيجة أكثر من حرصها على الديكور، دون أن يكون لديها أي وهم في الحصول على أدنى مكسب انتخابي ... ويا خيبة المسعى.
وهكذا يخرج النظام في كل مرة الرابح الوحيد من منطق المشاركة الاحتجاجية، حيث يسحب نسبة معتبرة من المعارضة من خندق المقاطعة الى مسرح المشاركة قبل أن يلفظها كالنواة ويواصل مسيرته المظفرة نحو تأبيد الدكتاتورية ..
فمتى تكسر تلك الأطراف هذه المعادلة الخاسرة وتقطع مع نظام متهالك لا يلقي لها أي اعتبار، ولا يتعامل معها بغير عقلية القمع والابتزاز والاذلال

ان السبيل الوحيد للتصدي لسياسة التزييف والاقصاء التي تنتهجها السلطة، هو التقاء مكونات الطيف الوطني المعارض وقوى المجتمع المدني الحية في استراتيجية نضالية موحدة وابداع أشكال جديدة وجريئة لكسر الحصار المضروب على المجتمع والتواصل مع عموم التونسيين.
ان الحاجة باتت ملحة، والنظام يستعد للتجدد ومن ثمة للتوريث، لنبذ الخلافات الهامشية وتنسيق الجهود من أجل اعادة الاعتبار للتونسيين ونفض الغبار عن كرامتهم وغسل العار الذي ألحقه ببلادنا نظام متخلف حول تونس لأضحوكة في المجالس ومضرب للمثل في الدكتاتورية واستبلاه الشعب.

* كاتب من تونس

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

قرصنة جديدة لموقع الدكتور المرزوقي

 
من أراد أن يرى بشاعة القرصنة وضعف خيال المنفذين ونذالة معطي الأوامر المتخفين وراء الستائر فليلق نظرة على موقع الدكتور المرزوقي اليوم قبل أن نجد شيئا من الوقت نصلح فيه ما أفسده العابثون ...
وهذا قدرنا مع قوم تافهين ومرضى يظنون أنهم قادرون على ارهاب الوطنيين بمناظرهم البشعة التي تظل أجمل من أفعالهم وأخلاقهم. ولكن هيهات أن يمسوا من عزيمة الرجال ..
فليعبثوا كما شاؤوا فصولة الطغيان والقرصنة توشك على الاندحار .. وسيعلم سفاحو الكلمة أي منقلب ينقلبون.


عماد الدائمي

الاثنين، 8 يونيو 2009

تونس: التغيير القادم ودور المعارضة المنشود




عماد الدائمي وسليم بن حميدان (*)

ينتاب الكثير من التونسيين اليوم شعور قوي بأن البلاد أضحت على أعتاب تغيير جديد يعيد فيه التاريخ نفسه. كما يتملك أغلبهم وعي ثاقب بأن هذا التغيير لن يكون بانتفاضة شعبية ولا بانقلاب عسكري ولا باستفاقة ديمقراطية لحكام البلاد الحاليين، بل لن يكون الا "بيولوجيا": أي تغيير من داخل الجهاز على اثر وفاة الرئيس الحالي أو ازاحته أو تخليه بسبب المرض في أجل أقصاه آخر الدورة الرئاسية القادمة.

شعور ووعي جماعيان يوحدان أغلب التونسيين ويدفعان بهم إلى حالة إحباط وعدمية غير مسبوقة زادها حدة اهتزاز منظومة القيم والمعاني الناظمة لوجودنا وهويتنا كجماعة وطنية تحلم بالحرية والتنمية واللحاق بركب الأمم المتقدمة.

حالة من الانتظارية المقيتة ومن انسداد الآفاق والخوف من المستقبل سادت أغلب شرائح المجتمع وخصوصا طاقات البلاد وكفاء اتها ونخبها ومستثمريها.
حالة تذكر بقوة بالوضع النفسي للتونسيين في آخر سنوات حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، عندما توقفت الحياة أو كادت، وبلغت الأزمة مداها، وأدرك الجميع من داخل أجهزة الدولة ومن أطراف المعارضة ومن عموم الشعب ومن القوى الدولية والإقليمية المؤثرة أن شروط التغيير تحققت وأن اللحظة آنت ليقطف قطاف الحكم في البلاد. فكان أن جاء انقلاب السابع من نوفمبر 1987 متلقفا انتظارات التونسيين ورافعا لشعارات أعادت للكثير منهم الثقة والأمل، لتنطلق دورة جديدة من الحراك والتدافع كشفت في زمن وجيز عن طبيعة النظام الجديد ونواياه، وأفضت بعد أكثر من عشريتين الى الوضع آنف الذكر الذي أضحت عليه البلاد اليوم.
 وحري بنا والبلاد تبدو على أعتاب تغيير جديد، قد لا يتأخر كثيرا، أن نتمعن جليا في مسار "التغيير السابق" للنظام الحالي ونتدبر في أسباب انتكاسه وارتكاسه الى ما دون الحالة التي انتفض عليها قبل أكثر من عشرين سنة، لنستخلص معالم الواجب الوطني الملقى اليوم على عاتق قوى البلاد الحية وعلى رأسها أحزاب المعارضة الوطنية وفاعلي المجتمع المدني من أجل كسر تلك الحلقة المفرغة وفرض اطار صارم وضوابط مقيدة وكابحة ومرشدة لأي تغيير قادم.

7 نوفمبر 1987 : تاريخ وعبرة   

لم يكن "تغيير" 7 نوفمبر 1987 دستوريا ولا حتى تونسيا.
لم يكن دستوريا لأنه وقع ليلا عندما كانت المؤسسات الدستورية نائمة، ولم يكن تونسيا لأن الأمر جاء من الضفة الأخرى للمتوسط.  
لقد كان انقلابا فرضته الضرورة البيولوجية المتمثلة في بلوغ الراحل بورقيبة سنا لم يعد فيها قادرا على الاستمرار في الحكم. كانت الأوضاع آنذاك تستعد لقبول " تغيير"، أي تغيير، بل تستدعيه حثيثا دون أن تكترث كثيرا لمضمونه أو لفاعليه.

استقبل الشعب التونسي، نخبة وجماهير، تغيير السابع من نوفمبر بكثير من التفاؤل ممزوج بشئ من الحيرة والتوجس.

ومع مرور الأيام سقطت الأقنعة وتبددت الأوهام واستيقظ الجميع على الحقيقة المرة عارية قاسية: رئاسة مؤبدة وديمقراطية مؤجلة وتنمية متعثرة أفقدت التونسيين كل أمل في تحسن أوضاعهم الأمر الذي جعل من الهجرة نحو أوروبا أغلى أمانيهم وقبلة شبابهم.

بعض الساسة والمثقفين التونسيين حذر مبكرا من انطلاء الحيلة ودعا للتعقل قبل إسناد الشرعية للنظام الجديد، لكن المشهد العام والتيار الغالب كان في وضع المراقب الذي ينظر و يتابع ، أو "المتفائل" الذي يأمل خيرا ويبارك ولم يكن كما كان ينبغي أن يكون : الفاعل الذي يوجه ويضغط ويؤثر في مجريات الأمور.

لم يكن ذلك الدور اختياريا بل هو في تقديرنا ناتج عن قصور في العقل السياسي انعكس بساطة في التحليل وضعفا في الأداء بما ضيع عن الوطن فرصة تاريخية ثمينة للانتقال الديمقراطي أو بالأحرى نحو وضع أفضل.  

لقد كانت القوى الوطنية جميعها، في المعارضة كما في الحكم، في حالة من الضعف والانقسام منعتها من لعب أي دور إيجابي في دفع عجلة التغيير نحو وضع أقل سوء.
حيث كانت قوى المعارضة منكفئة على نفسها غارقة في أزماتها أو مواجهاتها مع السلطة، تشقها خلافات ايديولوجية وشخصية حادة. أما الحزب الحاكم وأحزاب الموالاة المشاركة معه في بنية الشرعية السياسية للنظام القديم فقد كانت في درجة من الهشاشة والتشتت، بمفعول صراعات الأجنحة داخلها، مما أفقدها المناعة الداخلية ويسر تهميشها عبر ابتلاع قطاع منها وتحييده أو خنقه وتبديده ليستتب "أمنه" بعدها ويتحول إلى "استراتيجيا" جيش لها النظام الجديد كل إمكانيات الدولة.
وقد مكنت هذه الأرضية الرخوة النظام الجديد من الانتقال، وبسرعة قياسية، إلى طور المبادرة/المناورة السياسية عبر طرح فكرة "الميثاق الوطني" كأداة لبناء شرعية وطنية مفقودة وضمانة لسلم اجتماعية مهددة ووسيلة لاحداث فرز جديد في الساحة يكرس لهيمنة السلطة القديمة المتجددة ويضمن ولاء الأغلبية.

بكل تأكيد، لم تكن الأمور لتؤول إلى ما هي عليه اليوم، من استبداد وفساد، لو كانت القوى الوطنية المعارضة لحكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة مجتمعة حول "عقد سياسي" يوحد مطالبها تجاه أي نظام قادم بغض النظر عن هوية القائمين عليه وحساباتهم ونواياهم.

واليوم، بعد أكثر من عشريتين، وإن كنا نعتقد أن الأوضاع في ظل أي نظام آخر يمكن أن تكون أفضل حالا مما هي عليه الآن في ظل النظام الحالي إلا أننا لا نراها ستختلف عنه جذريا، في قضايا التنمية والديمقراطية خصوصا، إذا ما حافظنا على ذات الشروط الموضوعية أي ضعف المعارضة وتشتتها من جهة، فضلا عن الدور المركزي للخارج وهيمنته من جهة أخرى.

إن نفس الشروط في نفس الظروف تفضي غالبا إلى نفس النتائج رغم أن علم الاجتماع السياسي يؤكد فرادة الظواهر الاجتماعية والسياسية .

تغيير جديد يطرق الأبواب:

ما أشبه حال تونس اليوم بحالها في ربيع 1987. طبقة رقيقة من الهدوء الحذر والاستقرار الخادع و"الفرح" المصطنع، الذي يروج له وينفخ فيه خطاب سياسي خشبي واعلام محلي مدجن وقوى ضغط خارجية متواطئة، تغطي بوادر بركان متأجج أبرز تمظهراته:
ـ شباب يائس وحانق، قتل فيه الفقر والبطالة روح الانتماء للمجموعة الوطنية، ودفعته سياسات الاقصاء والتهميش نحو الأقصى انطواء على الذات أوتطرفا في كل الاتجاهات أو هروبا من الواقع وتعلقا بغاية المنى: الهجرة الى حيث تزدهر صناعة الحياة (ولو كان الثمن هو الحياة نفسها!) ؛
ـ وأزمة اقتصادية واجتماعية مستفحلة يستعر أوارها مع غلاء المعيشة وانهيار القدرة الشرائية لدى أغلب الفئات الشعبية؛ 
ـ وساحة سياسية آسنة، يتربع على رأسها رئيس متهالك يحظى بشرعية متآكلة يرممها جهاز أمني اخطبوطي وحزب مليوني غثائي. وتحاصر هذه الساحة قوى الضغط والمصلحة التي استولت على مركز القرار في الكثير من المجالات وافتكت من الدولة الكثير من الامتيازات. كل هذا في ظل تشتت غير مسبوق للمعارضة وضعف وانتظار يبعث على الاحباط والتشاؤم.

ولعل الفارق الرئيس بين الوضعين هو حدة الأزمات الراهنة وتعقد الأوضاع الحالية أكثر في ظل أزمة عالمية متصاعدة. زد على ذلك أزمة الثقة التي تضاعفت بسبب وأد حلم التغيير وارتكاس وعود الاصلاح بعد عقدين من الخداع.

وهكذا تبدو شروط التغيير قائمة. تغيير استباقي من داخل الجهاز يحول دون انفلات الأوضاع بالكامل أو انفتاحها على المجهول. حيث لن ترضى قوى الضغط والمصلحة والعائلات الحاكمة واللوبيات المتنفذة وكل المنتفعين من الوضع الحالي فقدان مكانتهم وامتيازاتهم، كما لن تقبل القوى الدولية والاقليمية حدوث تغيير غير مرتب له يربك حساباتها ويهدد مصالحها.

ترتيب التغيير القادم بين القوى النافذة، المحلية منها والدولية، يبدو السيناريو الأرجح. ولكن ذلك لا يعني أن قوى المصلحة داخل البلاد (وربما خارجها) ستكون متفقة فيما بينها على الخليفه الوارث. ولذلك تبدو البلاد متجهة نحو حرب خلافة ضروس تؤكد بعض المؤشرات اشتعالها منذ مدة، من مثل اضطراب السياسة الأمنية، تطبيعا أوتصعيدا، في التعاطي مع بعض الملفات الساخنة، أو الاشارات المتناقضة في مسائل التدين وعودة المغتربين والانفتاح الاعلامي.

وبقطع النظر عن هوية "صانع التغيير" القادم، وعن موعد استلامه للحكم، وعن طريقة ذلك الاستلام، فان ما يعنينا من كل ذلك وقوف البلاد اليوم على مشارف مفترق طرق ينتهي معه شوط لرحلة شعب معذب مؤذنا بانطلاق شوط جديد.

وحتى لا تكون الرحلة القادمة هي الأخرى رحلة عذاب فإن الحكمة والصواب تقتضي إعداد العدة وتحسس السبل الآمنة أن نضل الطريق ونتيه في فلاة الاستبداد ربع قرن آخر أو ثلثه (معدل البقاء في السلطة على مستوى الوطن العربي).
يحتاج الطريق الوعر إلى دليل، ودليل الشعوب هي نخبها التي تجدد لها الأمل وتشحن حركتها بالمعنى وتضيء لها دروب الخلاص.

عجز المعارضة عن التغيير:

على الرغم من أننا نقدس سلطان الارادة ونؤمن بقدرة "الفئة القليلة المؤمنة بضرورة التغيير" على جعله حقيقة كما هو جوهر السياسة أصلا فيما هي "فن تحويل اللازم إلى ممكن"، فاننا نقر آسفين بأن المعارضة التونسية عاجزة، بوضعها الحالي، عن صناعة الأمل واحداث التغيير المنشود. عجز اشتركت في احلاله عوامل عديدة أهمها:
ـ انقطاع معارضتنا عن شعبها كعمق طبيعي واستراتيجي، بسبب سياسات السلطة المبنية على المحاصرة وعلى كسر الحلقات الوسيطة، تعبئة وتأطيرا، بين النخب وعامة الشعب وبمفعول عوامل الخوف والتشتت وضعف الوازع الوطني للمواطن / الرعية التي تتحمل السياسة الثقافية للاستبداد فيها النصيب الأوفر من المسؤولية.
ـ ضعف المعارضة وعدم قدرتها على التجدد أو إبداع استراتيجيات نضالية تتجاوز بناها الحزبية الضيقة وإيديولوجياتها التقليدية المغلقة والتي أضحت عاجزة حتى عن تأطير أعضائها وإقناعهم.
ـ انقسامها وتشتتها وعجزها عن تقديم بديل أو حتى خطاب موحد يقنع القوى التي تخشى التغيير الحقيقي أن استمرار الوضع الحالي أو استنساخه لن يقودا لا للاستقرار ولا لحفظ المصالح.

وفي هذا الصدد، علينا أن نعترف بكون عجز المعارضة عن صناعة التغيير هو الذي أفقد الأمل لدى كثير من الشخصيات الوطنية ودفعها إلى بؤرة العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام في تناقض مؤسف ومؤلم مع قناعاتهم الصميمية وضمائرهم وواجبهم الوطني والأخلاقي.
كما أن السبب ذاته هو الذي ثبط ولا يزال كثيرا من الإطارات النزيهة للدولة ونخبة عريضة من أعضاء الحزب الحاكم عن القطع مع منظومة الاستبداد وحال دون انتقالهم إلى ضفة التغيير الديمقراطي الحقيقي والمسؤول.

إدراكنا لهذه الحقيقة المؤلمة يفرض علينا نقد استراتيجياتنا ومراجعة حساباتنا ورسم أهدافنا بحسب ما يتوفر لدينا من إمكانيات متواضعة.

المعارضة التونسية .. الدور الممكن والمسؤولية الوطنية:

إن العجز عن صناعة التغيير لا يرفع مسؤولية البدء في توفير شروطه عبر نحت قواعده وضبط مساراته ضمن إطار المصلحة الوطنية العليا. ذلك هو الدور التاريخي الذي تأثم معارضتنا أمام الأجيال القادمة إن هي لم تضطلع به كاملا وبشكل فوري.

نعم، ليست المعارضة التونسية قادرة اليوم على صناعة التغيير، ولكنها قادرة قطعا على الالتقاء، معا ومع قطاعات عريضة من النخب التونسية، حول مشروع للتغيير يكون بمثابة "خارطة طريق لحكم وطني رشيد" تفرض على "أي قاطن جديد في قرطاج" احترام شروطها وتنفيذ جميع بنودها فور صدور البيان الأول لـ"عهده الجديد".

مثل هذا المشروع ممكن نظريا وعمليا.

نظريا، يمكننا الجزم بأن إجماعا وطنيا قد تحقق منذ أمد في صفوف معارضتنا حول كبريات القضايا والإشكاليات. وإذا ما استثنينا بعض الحالات المصابة بداء الهوس الإيديولوجي، فإن الاختلاف الوحيد الذي يشقها هو من طبيعة مزاجية تتعلق بالطموحات الشخصية و النرجسيات أكثر منه تمايزا فكريا أو سياسيا.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن للاستبداد كل الفضل في توحيد الضحايا ممن جمعتهم السجون والمنافي والمظالم التي لم تكف يوما ولم تستثن حزبا أو نقابة أو قرية أو بيتا.
يشهد على هذه الوحدة الإنتاج الأدبي والسياسي للمقاومة المدنية كما سيل البيانات اليومية للجمعيات "التونسية" للدفاع عن حقوق الإنسان داخل البلاد وخارجها.

أما عمليا، فإن مبادرات الوفاق الديمقراطي وآكس-مرسيليا و 18 أكتوبر، على هناتها ومآلاتها، شكلت كلها إثباتا  قويا لقدرة المعارضة التونسية، عندما تصمم، على تجاوز خلافاتها وتنسيق جهودها.

ودرء للبدايات الصفرية وربحا لوقت ثمين في وضع متحرك، يمكن للمعارضة التونسية أن تنطلق من تجاربها السابقة فتستخرج من مبادراتها الوحدوية معالم وبنود "الميثاق الوطني" الجديد أو ما أسميناه سابقا "خارطة الطريق لحكم وطني رشيد".

ليس المطلوب من الأطراف الوطنية وحدة اندماجية أو جبهة سياسية، لأن ذلك الأمر غير واقعي وغير ممكن اليوم لأسباب ذاتية وموضوعية. ولكن المطلوب، والممكن، الالتقاء على مجموعة من المبادئ العامة والمطالب المشتركة وتدوينها وطرحها للساحة، والعمل على تحقيق أوسع اتفاق وطني ممكن حولها حتى تتحول الى مرجعية تستظل كل أطراف المجتمع المدني تحت ظلها، وتصبح بمثابة "كراس شروط" لن يجد أي نظام قادم بدا من احترامها لتحقيق الشرعية وضمان الاستقرار.

إن التنزيل العملي لهكذا مبادرة لا يحمل مختلف أطراف الطيف الوطني سوى حدود دنيا من التنسيق والاعداد المشترك (وحدود عليا من المسؤولية الوطنية وحساب المصلحة)، ويضمن لها مقابل ذلك الحفاظ على استقلالية القرار وحرية المبادرة.
ومن هذا المنظور، يصبح الانقسام الحاصل الآن بين مختلف الفرقاء حول الموقف من الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، سواء بالمشاركة الاحتجاجية أو المقاطعة المبدئية، مجرد حيثية في قرار وطني موحد لإدانة الاستبداد ومقاومته كما تصبح الإصطفافات الإيديولوجية والسياسية مجرد فواصل بسيطة في دفتر المسألة الوطنية.

المتأكد لدى كل التونسيين، بما في ذلك النظام الحاكم نفسه، هو كون التحديات التي تواجهها تونس أخطر بكثير من استحقاق انتخابات صورية باردة يعلم الجميع نتائجها حتى قبل أن يتقرر موعدها والمعينون لخوض غمارها.
كما أنه من المتأكد لدى المراقبين للشؤون التونسية، بما في ذلك أصدقاء النظام، هو أنه يستحيل حكم المستقبل بذات البنية والآليات السياسية التي حكمت الماضي ولا يزال أصحابها اليوم مصرّين على التجديف بها عكس تيار المجتمع والأمة والعولمة.
إن تغييرا وشيكا على رأس السلطة هو فرصة التونسيين الوطنية القادمة، فيما هي مرحلة بناء الشرعية، لفرض شروط الانتقال الديمقراطي.
فما من ريب عندنا في أن الرئيس القادم سيحتاج هو الآخر لبعض الوقت حتى يتمكن من تثبيت أركان حكمه الجديد وحمايته من كل الأخطار المحتملة. وفي انتظار ذلك فإنه سيكون مضطرا للمغازلة وتقديم التنازلات تنفيسا للاحتقان وتمايزا عن العهد القديم وتمهيدا لبناء شرعية مستقلة توفر الاستقرار اللازم لضمان تدفق الدعم الأجنبي له.
ذلك هو دوره الطبيعي وسيلعبه حتما بحرفية فائقة أما الدور الطبيعي للمعارضة فيجب أن يكون تحويل المغازلة إلى منازلة عبر الضغط الفعال من أجل التحويل الفوري للبيانات والوعود الخشبية إلى قوانين دستورية. 

إن القدرة على المنازلة تتطلب تفعيلا لدور قوى المعارضة وتجديدا لهياكلها، كما تتطلب منها رفضا مبدئيا للانخراط في لعبة التحالف المصلحي أو الإيديولوجي مع هذا المرشح للخلافة أو ذاك، لأن الاصطفاف وراء المرشحين المفترضين ومنحهم صكوكا بيضاء أو شهادات براءة وحسن سيرة، يعد أكبر خدمة لآفات التسلط والاستفراد المتمكنة لدى كل من ترعرع في ظل النظام الاستبدادي.

إن منطق المسؤولية الوطنية يحفز التونسيين إلى مزيد من اليقظة والثقة والأمل تماما كما تدفعهم التجربة السياسية للعقدين الأخيرين نحو فائض من الحيطة والتوجس والحذر لأن الجحر الذي لدغوا منه ذات ليلة لا زال يأوي الكثير من الأفاعي الغادرة.
(*) كاتبان من تونس

الاثنين، 11 مايو 2009

مبادرة حق العودة وإستحالة الحل الأمني

بقلم عماد الدائمي

شكل إطلاق مبادرة “حق العودة للمهجرين التونسيين” منذ بعض الأشهرحرجا شديدا للعقل الأمني للسلطة التونسية وتحديا كبيرا لخطته المرحلية المبنية، كما وضحت في مقال سابق(1)، على شعار “ضمان تجديد شرعية النظام في إنتخابات 2009 دون الحاجة لإحداث أي إنفتاح سياسي غير محمود العواقب، ودون قلاقل داخلية وفضائح خارجية تذكر”. حيث طرحت تلك المبادرة على طاولة المسؤولين الأمنيين، أصحاب القرار الحقيقي في البلاد، ملفا شديد الحساسية لم يعهدوه سابقا من حيث طبيعة التحرك وميدانه وهوية القائمين عليه.

جاء هذا الملف ليربك حسابات هؤلاء المسؤولين ويدفعهم الى إعادة النظر في خطتهم بعدما خالوا لوهلة خلال الصائفة الماضية أن الأمور بدأت تستتب لهم بفضل سياسة إخماد الأصوات المزعجة، ووأد التحركات الاجتماعية الشعبية في المهد والحيلولة دون توسعها، وتصفية ملفات “الارهاب”، ورواج بضاعة “العودة الفردية المشروطة” لدى بعض أوساط اللاجئين التونسيين في أروبا.

تأنت الأجهزة الأمنية لبعض الوقت قبل أن تبادر للرد على المبادرة عبر ناطقها غير الرسمي (2). وجاء الرد عموميا فضفاضا محسوب الكلمات، فيما يبدو أنه عملية ربح للوقت وجس للنبض حتى تتوضح الصورة أكثر وتكتمل معالم الخطة البديلة. في ظل تقدم أصحاب المبادرة بأشواط عديدة أمام تلك الأجهزة في فهم المشروع وتنضيجه وتوسيع دائرة المنخرطين فيه والمتعاطفين معه وافتكاك زمام المبادرة وتحديد أرضية “المعركة” وتوقيتها، واستيعاب إمكانيات الخصم وتعطيل عدد من “أسلحته”.

وبرزت خلال هذه الفترة مؤشرات عديدة على أن الملف بصدد التفكيك والدراسة من طرف وحدة أمنية متخصصة عاكفة على مراكمة المعلومات ودراسة الملفات والتخطيط للمناورات.

ويبدو لنا من خلال هذه المؤشرات، وإنطلاقا من فهمنا لمنهج العقل الأمني وتحليلنا لطريقة تعامله مع الساحتين الحقوقية والسياسية في البلاد، أن معالم خطته التي هي بصدد إنهاء الإعداد وبدء التنزيل لن تخرج كثيرا عن السيناريو التالي : السعي عبر كل الوسائل الممكنة لتفجير المبادرة من الداخل أو على الأقل إضعافها عبر تشويه صورتها وعزل القائمين عليها عن الجسم العام للمهجرين وسحب البساط منهم دون استبعاد التفاوض معهم في آخر المطاف إن فشلت في مساعي التدمير.

سأبدأ أولا بتعديد الوسائل المنتظر إنتهاجها من قبل الجهاز الأمني المكلف بمتابعة المبادرة ومحاربتها، وبعضها صار فعلا طور التنفيذ، ثم أرد لاحقا على تلك الوسائل واحدة واحدة، قبل أن أختم بتقدير للموقف وإستقراء لمصير تلك الخطة المفترضة في ظل الالتفاف المتزايد للمهجرين التونسيين في مختلف المنافي حول مبدأ “المطالبة بحق العودة الآمنة والكريمة “.

أوهام العقل الأمني

مناورات، محاولات إختراق، تفتين، تشويه، إبتزاز … تلك هي الكلمات المفاتيح لأي خطة أمنية في ظل الدكتاتوريات المتخلفة، وذلك هو ديدن العقل الأمني التونسي في تعامله مع أي مشروع أو أية مبادرة في الفضاء الوطني المعارض. وقد تواترت المؤشرات والدلائل على أن طريقة التعاطي مع ملف “عودة المهجرين” لن تشذ عن هذه القاعدة، حيث ستعتمد بالضرورة على الأشكال التالية:

1 ـ سياسة الالتفاف على المبادرة عبر الاتصال بموقعين فيها والضغط عليهم بمزيج من الترغيب والترهيب للانسحاب منها ووعدهم بتسوية الوضعية وضمان عودة آمنة في حالة سحب أسمائهم من العريضة والتهجم عليها على الملء. وقد تم الاتصال فعليا بعدد من الموقعين، كما سئل الكثيرون ممن قصدوا السفارات لتسوية الوضعية عن موقفهم من “حق العودة” وعلاقتهم بالمبادرين.
2 ـ محاولة إختراق المبادرة عبر زرع مخبرين أو مهجرين واقعين تحت سيف الابتزاز الأمني المهين لنقل الأخبار والسعي للتخريب من الداخل.
3 ـ السعي لتشويه المبادرة عبر الترويج لوجود عناصر مشبوهة الارتباطات أو ذات سجل غير محمود في قائمة الموقعين، من مثل دعوى الزور والبهتان التي تم تسريبها الى أحد الاعلاميين حول تسرب “.. أسماء لاعلاقة لها بالشأن السياسي التونسي، فأحد الممضين متورط في شبكة راهنت على زعزعة الأمن والاستقرار بمنطقة المغرب العربي ، بل انه وبحسب هذه المصادر المطلعة مطلوب في قضايا شبكة ارهابية خطيرة … شخص اخر أمضى على العريضة متورط هو الاخر وبحسب نفس المصدر المطلع في قضايا حق عام”.
4 ـ دفع بعض المتقدمين لتسوية الوضعية بصفة فردية والماضين في خيار العودة المشروطة لمهاجمة المبادرة كشرط لفتح باب العودة أمامهم. والهدف من هذا الأمر التفتين بين المهجرين وعزل أصحاب المبادرة ونزع صورة التمثيلية للجسم المهجري عنها.
5 ـ العمل، ربما، على تسوية بعض الملفات الفردية وطلبات العفو والعودة لعدد من المهجرين في بعض العواصم الاروبية المقدمة منذ أشهر عديدة وبعضها منذ بضع سنوات، لسحب البساط من المبادرة واقناع الجسم المهجري بأن السبيل الوحيد للعودة هو عبر التماس العفو لدى السلطات والقبول بالشروط المطروحة وأخيرا لإقناع الرأي العام الداخلي والخارجي بأن سبل العودة مفتوحة لمن يرغب في ذلك.
6 ـ ربط المبادرة في الخطاب الرسمي وشبه الرسمي بحركة النهضة: بأزمتها الداخلية والتحديات المطروحة عليها، ومحاولة إيهام الرأي العام أنها لا تعدو أن تكون مناورة لتلك الحركة في سعي مفضوح للحد من التعاطف الكبير مع حق العودة” داخل البلاد وخارجها.
7 ـ ولعل أخطر بنود الخطة الأمنية المفترضة لضرب مبادرة “حق العودة، وشل الحراك الوطني المتصاعد في البلاد، يتمثل في تصعيد القمع على الفاعلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين داخل البلاد خلال الأشهر القليلة الماضية وخصوصا إعادة السيد صادق شورو الرئيس السابق لحركة النهضة الى السجن والاحكام القاسية جدا التي صدرت بالتزامن على مناضلي الحوض المنجمي. حيث لا مجال للشك أن من بين الأهداف المركزية لهذا التصعيد المجاني دفع الساحة الحقوقية والسياسية إلى إعادة اعادة ترتيب الأولويات لتقديم النضال من أجل إطلاق سراح المساجين مجددا على التحرك في ملف العودة، ثم دفع المهجرين أنفسهم إلى تأخير مسعاهم للعودة لعدم ملاءمة الظرف

كشف الأوهام وتهافت المقاربة الأمنية

غريب أمر الأجهزة الأمنية، تبدو أحيانا شديدة الذكاء وفائقة المناورة عندما توجه الساحة حيث تريد وتفرض أجندتها وأهدافها، غير أنها تبدو على غاية من الغباء عندما تعيد تكرار الأخطاء ولا تستفيد من دروس الماضي، وخاصة عندما ترسم الخطط والمناورات دون فهم دقيق للجهة المقابلة ونوعية أفرادها ودرجة إلتفافهم حول مشروعهم ومقدار التفاعل مع قضيتهم، وهذا ما يبدو أنها مقدمة عليه في ملف “عودة المهجرين” من خلال ما سبق تفصيله. وهو ما ينبئ بفشل ذريع لتلك الخطة المفترضة.

وفيما يلي رد مفصل على بنودها المعددة سالفا واحدة بواحدة، يكشف أوهام العقل الأمني ويبين تهافت مقاربته.

1 ـ الالتفاف على المبادرة لن ينجح نظرا لاقتناع جميع الموقعين بعدالة القضية ومشروعية التحرك ومناسبة اللحظة، ولرفضهم المطلق لأي نوع من أنواع المساومة حول حقهم في العودة الآمنة والكريمة دون شروط. وكل ما يمكن أن تحققه السلطة في هذا المجال إقتناص بعض المناضلين على أطراف المبادرة ترغيبا و ترهيبا ومنحهم تسوية مستعجلة وعودة سخية، وإن حصل هذا فقد يكون دافعا لبعض الراغبين في تسوية الوضعية بشكل فردي للامضاء على العريضة بنية المساومة عليها إثر ذلك، حيث يبدو أن هذا هو الطريق الأقصر والأضمن للعودة حاليا.
2 ـ الاختراق الأمني، الذي هو أول ما يفكر فيه العقل الأمني بداهة ، هو آخر ما تخشاه هذه المبادرة باعتبار أنها ليست إطارا تنظيميا متشعب الهيكلية، ولا إطارا مفتوحا لعامة الناس على أسس الايديولوجيا أو الالتقاء الفكري والسياسي (وهذه مداخل الاختراق الرئيسية)، بل هو إطار متخفف الهيكلة ليس لديه ما يخفيه وجمهوره من المهجرين (اللاجئين السياسيين وغيرهم) وهو جمهور محدد أفراده يعرف بعضه البعض الآخر. إضافة إلى أن تحديث العريضة مركز بيد الثلة المبادرة التي تقوم بجهد كبير للتدقيق في كل إمضاء يرد، وقد أحبطت محاولات عدة لتسريب أسماء وهمية أو غير متأكد من صدقيتها. وحتى إن تمكنت الأجهزة من تسريب إسم أو إسمين إلى القائمة فلن يؤدي ذلك إلا إلى زيادة عدد الموقعين
3 ـ كم كان سخيفا وأحمقا إتهام المبادرة بتسرب إسمين “مشبوهين لاعلاقة لهما بالشأن السياسي التونسي” إليها، لأن هذا الاتهام يبطن اعترافا بأن ال194 المتبقين لا شبهة عليهم وأنهم في صلب الشأن التونسي. وهكذا يتحول ما أريد له أن يكون مثلبا للمبادرة إلى تنويه بها. واهمة تلك الأجهزة وأذنابها إن ظنت أنها قادرة على النيل من هذا العمل بمثل تلك الترهات. فالجميع يدرك أن القاسم المشترك بين المبادرين عاملان فقط أنهم جميعهم تونسيون وأنهم محرومون عمليا من العودة إلى بلادهم، ولن يتردد أحد منهم في الدفاع عن حق الآخرين مهما كانوا في العودة الآمنة والكريمة إلى بلادهم، ثم ليتحمل كل واحد مسؤوليته أمام قضاء عادل ومستقل ببلادنا أو حتى أمام القضاء الدولي إن كان للأمر بد.
4 ـ لن يضير المبادرة ـ إطلاقا ـ أن تقع مهاجمتها من طرف مهجرين واقعين تحت سطوة الابتزاز الأمني. ولن ترد في الأغلب على من تسمح له نفسه أن يسلك هذا الدرب، بل ستعتبره ضحية للابتزاز، كما ستعتبر نفسها معنية بالدفاع عنه إن عاد للبلاد وتعرض للمضايقة ولو لم يطلب منها ذلك.
5 ـ حول إمكانية تسوية وضعية المهجرين المتقدمين بصفة فردية بطلبات العودة بنية سحب البساط من المبادرة، نشك في إمتلاك الأجهزة الأمنية لهامش الفعل والشجاعة الكافية للإقدام على هذا الأمر. وإن تجرأت وأقدمت على ذلك فسيكون المبادرون أول المهنئين لمن شاركهم يوما محنة التغرب عن الوطن وسيعتبرون أنفسهم معنيين بالدفاع عنهم كذلك إن هددت سلامتهم أثناء عودتهم. وستؤدي تلك الخطوة إلى نتيجة عكسية تماما عن تلك التي قصدتها السلطة، حيث ستثبت للجميع أن الضغط هو السبيل الوحيد لدفع السلطة لتحريك الملف الراكد
6 ـ إن مسعى السلطة لتسويق المبادرة على أساس أنها “مناورة جديدة للنهضة” متهافت بالضرورة في ظل توسع رقعة المشاركة في هذا الجهد الوطني ليشمل كل أطياف الجسم المهجري التونسي، وفي ظل الحرص المطلق للمبادرين من مختلف المشارب على إستقلالية قرارهم وتبنيهم لسلوك ديموقراطي شفاف سيفضي قريبا إلى بناء منظمة وطنية ممثلة للجسم المهجري وعلى علاقة ممتازة بكل الأطراف في الساحتين الحقوقية والسياسية التونسية.
7 ـ إن ظن العقل الأمني بالبلاد أنه سيعيد ترتيب أولويات المهجرين ويدفعهم إلى التخلي عن طرح “حق العودة” كهدف مركزي لهذه المرحلة، بعد جريمة إعادة الدكتور صادق شورو إلى السجن وبعد الأحكام الجائرة التي استصدرها ضد زعماء ومناضلي حركة الحوض المنجمي الاحتجاجية فهو واهم. لأن قطار العودة إنطلق أصلا في أذهان المنخرطين في المبادرة ولن يتوقف إلا في محطة تونس في وقت يرونه بعيدا ونراه قريبا. ولن يزيد التعنت الأمني والتصعيد البوليسي ضد جماهير الشعب وقواه الفاعلة المهجرين الا حرصا على خوض “معركة العودة” بكل ما أوتوا من جهد وعزم وحكمة حتى يحققوا عودة ليس فقط لتقبيل تربة البلاد ومعانقة الأهل والأحباب كما يرغب في ذلك الكثير من المهجرين بل أيضا للاسهام الفعال في في الدفاع عن الحرية ومحاربة الدكتاتورية وإحلال الديموقراطية.

الحل الوحيد

تأكد من خلال ما سبق أن السياسة الأمنية المفترضة لمواجهة مبادرة “حق العودة” آئلة للفشل لا محالة، وأنها لن تحقق للأجهزة صاحبة القرار أي مكسب، عدى ربما في أحسن الحالات، تأجيل عودة مئات اللاجئين الذين الذين بدأوا يدقون أبواب الوطن لبعض الوقت. غير أن ثمن ذلك “المكسب” سيكون بلا شك مرتفعا لتلك الأجهزة، حيث ستستنزف طاقاتها وامكانياتها مع تصاعد تحركات المهجرين وأنشطتهم وستزداد عزلتها وتتسارع أزمتها مع تعاظم التعاطف الداخلي والخارجي مع هذه القضية العادلة، وستجد نفسها حتما ذات يوم، نراه قريبا، مضطرة للتقهقر والتسليم تحت ضغط الداخل والخارج.

لذلك فليس أمام السلطة، المعنية بتهدئة الأوضاع وتقليص عدد وحدة بؤر التوتر المتزايدة قبيل الانتخابات التي أضحت على الأبواب، والمطالبة بتوفير الشروط اللازمة لتجديد الشرعية دون فضائح وبلابل وقلاقل، ليس أمامها إلا انتهاج حل سياسي لهذا الملف .وهذا الحل يتطلب فقط شجاعة في إتخاذ القرار وتقديما لمصلحة البلاد والعباد وتأخيرا للاعتبارات “الأمنوية” الخانقة للفعل والمبادرة. لذلك فالكرة الآن في ميدان السلطة إن هي آتتها حقها وأحسنت التصرف فيها، برفع الحواجز عن المهجرين قسرا من البلاد ليعودوا بكل كرامة وأمن وبدون شروط وبترتيبات يتفق عليها، حلت المشكلة ورفعت الغمة واُطفئ الفتيل. وإن واصلت غيها تحولت الكرة الى ميدان المهجرين ليفرضوا نسقهم ويُسمعوا صوتهم ويخوضوا معركتهم حتى يحققوا هدفهم في العودة الكريمة والآمنة والمسؤولة الى بلدهم.

ملاحظة: كتب هذا التحليل منذ عدة أسابيع. وقد جاءت الحملة التي أطلقتها الوحدة الأمنية المكلفة بملف “منفيون” أخيرا على صفحات تونس نيوز الغراء لتؤكد صحة ما ذهبنا اليه من توتر أصحاب القرار الأمني وتخبطهم في ادارة هذا الملف الشائك. كما تردنا أخبار متواترة ومؤشرات عديدة تؤكد انطلاق تنفيذ أغلب بنود الخطة الأمنية المفترضة المفصلة أعلاه. وكلنا أمل أن يدرك أصحاب القرار الأمني اليوم أنه لا طائل من مواصلة خطة آئلة للفشل لامحالة.

——–
(1) – “العقل الأمني للسلطة وسياسات المرحلة” ـ جوان/يونيو 2008 ـ عماد الدائمي- http://www.dctcrs.org/s4272.htm
(2) – انظر كلام برهان بسيس في ” تونس: انقسام الإسلاميين حول مسألتي العودة” و”المصالحة – صلاح الدين الجورشي – http://www.swissinfo.ch/ara/front.html?siteSect=105&sid=9307061&cKey=1218178592000&ty=st”

الأربعاء، 6 مايو 2009

خاطرة :مؤسسة جديدة في دولة القانون والمؤسسات

بشرى لكل التونسيين في دولة القانون والمؤسسات: لقد صار لديهم مؤسسة جديدة أعلى من جل المؤسسات، رحيمة ذات قلب كبير، حنونة محبة للخير. مجال اختصاصها التونسيون العالقون بوهمهم في الخارج والهاجرون بمحض اختيارهم لوطنهم وذويهم، وسر قوتها ونفوذها الخارق، حسب ما تدعي، أنها عرفت الطريق السري والسحري إلى قلب المؤسسة العظمى في دولة المؤسسات: فخامة الرئيس !

مؤسسة تؤكد في "أدبياتها" أنها قادرة على صنع المعجزات: فتح الأبواب الموصدة وكسر الجدران السميكة وتنظيف السجلات "المحممة". بل يقسم بعض مناصريها، الذين اطلعوا على بعض أسرارها، بالثالوث المقدس، أنها تمتلك عصا تتكئ عليها قادرة على شق طريق في البحر المتوسط من مرسيليا الى حلق الوادي، كي يتمكن المستضعفون الغافلون من بني الوطن، الواقعون تحت سطوة فراعنة الغرب، من الفرار من بلاد الكفر حيث العنصرية والأزمة الاقتصادية والحمى الخنزيرية الى بلد الأمن والرخاء والسلامة...

هلا عرفتم، يا صحابة الغربة، هذه المؤسسة الرائدة ذات القلب الرحيم، حتى تهبوا زرافات ووحدانا لنيل رضاها والحصول على حمايتها والتعلق بأهدابها كي تعودوا إلى بلادكم سالمين غانمين وتطووا إلى الأبد صفحة المنفى اللعين. أم تراكم في غيكم سادرين فلم تعرفوا ليصدق فيكم حدس تلك المؤسسة الثاقب بأنكم لا تعرفون مصلحتكم ولا تفقهون الكثير من الأمور التي تدور من حولكم.

على كل حال، إن صعب عليكم الأمر والتبست الأشياء، فعودوا إلى ما عرفها به هارون أخو موسى في آخر الأسفار، حيث قال أنها "ذات اسم مركب وهاتف وعصا". اسم مركب من نصفين، النصف الأول يا صحبي اسم علم، والنصف الثاني لعمري، ليت شعري ربما أدركتم المقصود، إذ ليست المسألة بهذا التعقيد ...

دعونا من هذا الهراء، واعترفوا جميعا معي بأنكم انبهرتم مثلي بإرادة الخير والحرص على مصلحة التونسيين المهجريين، كي لا نقول المهجرين، المتجلي في أقوال تلك المؤسسة وأفعالها، وأن مسعاها تجاهكم لامس شغاف قلوبكم، وأنكم أقدمتم، تماما كما فعلت أنا، على تسجيل أرقام هواتف المؤسسة وعنوانها المذيلة في آخر كل نص من نصوصها لعل سلطان العقل الكامن في كيانكم ينتصر يوما على سلطان العاطفة، فتتصلون بها متضرعين، وتذكرونها بلقاء عابر منذ سنين، أو بصديق مشترك نال ثقتها .. عل قلبها يحن عليكم كما حن على الكثيرين ..

ولا أخفيكم السر أنني هممت أكثر من مرة بأن أهاتف الرقم السحري لأطرح سؤالا ساذجا بسيطا يترنح في الذهن والوجدان، مفاده يا صحبي، لعمري مادامت هذه المؤسسة تريد الخير للتونسيين وترغب في لملمة الجراح وطي صفحة الماضي وتعرف الطريق السري والسحري لقلب المؤسسة العظمى، وتمتلك العصا التي تشق البحار والمحيطات، وتعلو على المحاكم والمخابرات والسفارات، فلماذا لا تشير بعصاها على البناية الواقعة في آخر الطريق، فتنفتح الزنزانة التي تأوي الصادق شورو، أو تلك التي تضم عدنان الحاجي وصحبه، أو تلك التي تحوي المئات من الشباب المعتقل بتهم "إضمار النية واستبطان اللحية" ... حتى ترفع عن هؤلاء الغمة وتعود إلى ذويهم البسمة ؟؟

أظنكم تتوقعون مثلي الرد الذي سيصدر عن مؤسستنا التي فاقت في إنسانيتها مانديلا الهمام، والتي تحلم بالتأكيد بنيل نوبل للسلام... ستقول بالتأكيد أنه في دولة المؤسسات لا مجال لتداخل الاختصاصات وأن اختصاصها "الدستوري" الحصري في مسائل ما وراء البحار.. وأن عصاها من النوع الذي لا يصلح إلا مع البحار والمحيطات لا مع مجردة ونبهانة والسبخات.

هنا قف وأدرك يا صحبي، لعمري أن عصا تلك المؤسسة ستتحول، إن قدر لها أن تنجح في شق المتوسط وإعادة المغتربين فردا فردا بل قردا قردا، الى عصا "رحيمة" في يد أم المؤسسات : البوليس السياسي، تنتزع الاعترافات وتقتلع الذكريات عاما بعام ويوما بيوم وساعة بساعة.
 

هذه هي، يا صحبي، لعمري، حكاية المؤسسة الوطنية الجديدة التي تعلو على كل المؤسسات في دولة القانون والمؤسسات : اسم مركب وهاتف وعصا...

الخميس، 19 فبراير 2009

الحرب على غزة.. المعركة الحقيقية والنصر المبين


مع انجلاء دخان المدافع الإسرائيلية المعتدية وجحيم قنابلها الفسفورية المحرقة عن سماء غزة العزة والصمود، انجلت أوهام الساسة والعسكريين الصهاينة وأصدقائهم الغربيين وحلفائهم العرب في استئصال حركات المقاومة وعلى رأسها حماس وفرض أمر واقع جديد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي ضرب فكرة المقاومة والتأسيس لمنهج واقعي يحترم المعادلات الإقليمية القائمة وموازين القوى الموجودة والشرعيات المحلية والدولية المفروضة.
"حرب كسر إرادة" أرادتها إسرائيل وجيشت لها الآلاف المؤلفة من الجنود، وجندت لها جل مقدرات الجيش الصهيوني، وضمنت لها تأييد أطراف دولية وعربية عديدة.
في البدء كانت الصدمة، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل أصحاب القضية وأنصارها زلزالا شديدا، وظن الجميع من أعداء وأصدقاء أن التنين الصهيوني الذي أطبق بمخالبه الحاقدة وسمومه الفتاكة على غزة ليبتلعها حتما في أيام معدودات. وانقسم العالم قسمين، قسم مصدوم باك متألم، وآخر شامت متشوق لنهاية حاسمة تشفي الغليل.
وبدأ "الرصاص المصهور" لرابع جيوش العالم يحطم كل شيء في غزة عدا معنويات وإيمان الفئة القليلة المقاومة التي حافظت على رباطة جأشها وبرودة أعصابها، ويقينها في النصر في ثبات بطولي مؤزر سيظل ملحمة تنهل منها الأجيال القادمة.
ظلت الطائرات والمدافع والدبابات والبارجات طيلة ثلاثة أسابيع تساوي دهرا بأكمله، تدك البنايات وتقصف أرواح الأبرياء وتبث الرعب والخراب، غير أن المعركة الحقيقية سرعان ما انتقلت إلى ميدان آخر هو ميدان "الإرادة" حيث تتقارب القوى وتتعادل الموازين خلافا لما عليه الحال في الميدان العسكري بمفهومه المادي واللوجستي. واستحالت المواجهة إلى تصادم إرادات، إرادة تحطيم وتركيع مقابل إرادة ثبات وصمود.

اعتمد طرفا المواجهة خطتين متباينتين لكسر إرادة الخصم وضرب معنوياته، فكان أن بنت "إسرائيل" خطتها على بث أكبر قدر من الدمار نشرا للرعب في نفوس الغزيين وتكثيفا للضغوط الداخلية والخارجية على المقاومة وتحقيقا لردع منشود.
اعتمدت المقاومة خطة معالمها الرئيسية إعاقة تقدم المعتدي والصمود في وجهه عند مداخل الأحياء السكنية، ومواصلة إطلاق الصواريخ بنفس الوتيرة يوميا، لإبراز فشل العدو الذريع في تحقيق أهدافه، والعمل على إحداث بعض الخسائر في صفوفه ضربا لمعنويات جنوده وبثا للوهن والرعب في صفوفهم، وزعزعة للإجماع الداخلي "المرضي" في المجتمع الصهيوني حول مشروعية الحرب وجدواها وإمكانيات نجاحها.
لعب الوقت بالتأكيد لصالح المقاومة، حيث كان كل يوم ينضاف إلى يوميات العزة والصمود، يزيد من ثبات المقاومين ويقين المناصرين، ويبث الوهن والفرقة في صفوف المعتدين ويربك حسابات الحلفاء والمتواطئين.
ومع تغير المعادلة النفسية الأيام الثلاثة الأخيرة، تغير السلوك الميداني لكل طرف، فاتجه الجيش الغازي في تخبط وتوتر شديدين نحو مربع "الحد الأقصى" من التدمير والتقتيل لانتزاع أي مكسب نوعي يحفظ بعض ماء الوجه ويوهم الداخل والخارج بتحقيق نوع من الانتصار، في حين اتجه المدافعون عن غزة في يقين وثبات وبصيرة نحو مربع "الحد الأدنى" من المقاومة، حد التصدي لتقدم العدو ومواصلة إطلاق الصواريخ، دون القيام بهجمات نوعية وعمليات استشهادية تذكر، في مسعى واضح لحفظ المقدرات وربح الوقت وترك العاصفة الهوجاء تمر دون خسائر كارثية بعدما بدأت تباشير نهاية العدوان تلوح.
أما على المستوى السياسي، فقد أدى انقلاب المعادلة النفسية إلى تصدع الجبهة الداخلية المؤيدة للحرب في إسرائيل، وإلى تعالي الأصوات الداعية لإيقافها، كما أدى ذلك أيضا إلى تحسن الموقف التفاوضي لقيادة المقاومة وارتفاع سقف مطالبها وثباتها أمام ضغوط "الوسطاء" المتحالفين موضوعيا مع العدوان، ممن وجدوا أنفسهم بدورهم مضطرين للتأقلم مع الحالة النفسية الجديدة لاعتماد موقف تكتيكي مصعد تجاه العدوان وأكثر مرونة تجاه أهل غزة.
انتهت معركة عض الأصابع بأن صاح الإسرائيليون أولا، وهذا في قواعد اللعبة النفسية هزيمة نكراء ولو بتر أصبع الخصم تماما.
ووجدت إسرائيل نفسها لأول مرة في تاريخها، مضطرة لأن ترمي بكل ثقلها الإعلامي والسياسي في صراع محموم مع الزمن من أجل "تغليف" تلك الهزيمة النكراء، وتعويضها بإنجازات رمزية وهمية في الميدان الدبلوماسي، علها تخفف من وطأة الأزمة الداخلية المتصاعدة بسبب عدم تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة والخفية.
وسرعان ما أدرك حلفاء إسرائيل ومؤيدوها والمتقاطعون في المصالح معها حجم الهزيمة النفسية التي لحقت بها والآثار الإستراتيجية المدمرة لتلك الهزيمة، وفهموا حجم المأزق الذي ألقت بنفسها فيه، فتلقفوا نداء استغاثتها وهبوا لنجدتها، الأميركان باتفاقية أمنية فضفاضة مع حكومة لم يبق من عمرها إلا ساعات معدودة، والأوروبيون بزيارة جماعية ومواقف منحازة وعرض سخي للخدمات الأمنية، ودول "الاعتدال" العربية بالمبادرات المنحازة التي تكافئ العدو المعتدي وتعاقب الأخ الضحية، وبمواصلة الضغط على المقاومة والحرص المتفاني في حرمان حماس من أي غطاء سياسي عربي، والعمل على إطفاء جذوة الغضب الشعبي المتصاعد.
ولعل الهدف المشترك لكل تلك المبادرات والمؤامرات والمناورات هو سرقة نصر المقاومة، والحيلولة دون تحويله إلى مكاسب سياسية لحماس وحلفائها تغير المعادلة القائمة في المنطقة.
وأهم من ذلك الحيلولة دون انتصار مبدأ المقاومة وغرسه في عقول الأجيال القادمة ووجدانها كسبيل وحيد وأوحد لتحرير الأرض وصد العدوان، وإعادة الحقوق المسلوبة في فلسطين والمنطقة والعالم بأسره.
ولن تكون تلك السياسات وما بدأت تعتمده من وسائل ضغط وابتزاز ومناورة أوفر حظا من الجبروت العسكري للإرهاب الصهيوني الذي تحطم على جدار الإرادة الصماء، هذا الجدار الذي لم تزده دماء الشهداء ولوعات المكلومين ودعوات المظلومين إلا صلابة ومتانة وشموخا.
خرج "مبدأ المقاومة" من تحت الأنقاض والركام سليما معافى، بل بدا أكثر قوة وبريقا. تجلى علامة نصر على أيادي المقاومين، وانبساطا وسرورا على وجوه قيادتهم السياسية، واحتسابا وصبرا جميلا على ألسنة المكلومين ممن فقدوا إلى الأبد أعز أحبتهم وكل ما يملكون (دون أن نسمع منهم تأففا من المقاومة أو لوما لها) وحكمة وإصرارا من أفواه أطفال غزة نشامى المستقبل، ودموع انفراج وابتهاج على خدود مناصري العدل والسلام في كل أرجاء البسيطة.
انتصرت فكرة المقاومة في معركة الأفكار والمعاني والخيارات بشهادة الأصدقاء والمحايدين المنصفين وكثير من الأعداء، وإن تباينت التقييمات للنتائج العسكرية للحرب.
وترافق هذا الانتصار مع حصول متغيرات جوهرية في الساحتين الفلسطينية والعربية الإسلامية -قد تغير وجه المنطقة تماما السنوات القادمة- أبرزها انتفاضة الوعي التي حصلت في شعوب المنطقة، والتي تدل مؤشرات عديدة على أنها لن تكون مجرد سحابة صيف عابرة.
فقد تحركت تلك الشعوب، الغائبة عادة أو قل المغيبة كرها عن الشأن العام، بكثافة ملحوظة طيلة فترة الحرب على كل شبر من جغرافيا الأمة لمساندة المقاومة، مبدعة أشكالا خلاقة وغير مسبوقة من النضال، ومتعالية عن خلافاتها الأيديولوجية وفوارقها الحزبية.
وقد أسست تلك التعبئة النوعية لحالة نضالية لا تزال مستمرة حتى بعد الحرب بما ييسر استثمارها مستقبلا في قضايا قـُطرية وقومية عادلة، سياسية كانت أم اجتماعية، مادامت ملتصقة بخيار المقاومة.
- تجذير حالة القطيعة بين تلك الشعوب وحكامها المتلبسين بالتآمر على المقاومة، مما ينذر بحدوث انتفاضات تبشر بتغيير الأوضاع، لا يمنع اندلاعها الآن إلا قمع بوليسي شديد ومدد أجنبي مآلهما حتما إلى زوال.
- حدوث فرز حقيقي في صفوف النخبة السياسية والفكرية والإعلامية في المنطقة، لا على قاعدة الدين والمذهب والعرق بل على أساس الموقف من المقاومة.
وتجاوز هذا الفرز النخب ليطال الدول ويقسم الرسمية العربية إلى محورين، محور "دعم المقاومة" ومحور "الواقعية والاعتدال". كما تخطى المنطقة العربية ليبلغ مداه قوى إقليمية ودولية مؤثرة ويعيد خلط الأوراق بشكل فاجأ الكثيرين. إذ وجدت إسرائيل نفسها بين عشية وضحاها رغم جريمتها النكراء واعتدائها الآثم، ركنا أساسا من أركان محور "الاعتدال" في نفس الخندق مع أقطاب الرسمية العربية وتوابعها بدعم من الغرب الرسمي دون استثناء.
هذا، في حين آثر أحفاد الخلافة العثمانية، الطامحون لاستعادة دور إقليمي مشروع، التخندق في موقع أقرب لتيار المقاومة الذي تقوده سوريا وإيران وتدعمه الدول المتحررة من الهيمنة الصهيو أميركية في العالم، وعلى رأسها فنزويلا شافيز، ويتعاطف معه جزء متزايد من المجتمعات المدنية الغربية.
ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى انبرى بعض الكتاب المتصهينين (من ذوي اللسان العبري أو الغربي أو العربي) في حملة منظمة وممنهجة تهدف إلى قلب الحقائق والسطو على الانتصار، إنقاذا لهيبة الجيش الذي دخل الحرب أساسا ليستعيد ثقته المهتزة وردعه المهترئ، وتشكيكا في إنجازات المقاومة وتحريضا عليها وبثا للوهن والانهزامية والخذلان في نفوس أبناء الأمة المتعاطفين معها، معتمدين معايير لتقييم النصر والهزيمة مقلوبة ومكذوبة، تركز على تدمير البنى التحتية وعدد القتلى والمصابين.
والحال أن تلك المعايير لا تنطبق البتة على حركات التحرير والمقاومة، وأن المعيار الحقيقي يتمثل في مدى تحقيق الأهداف المرسومة للحرب على أرض الواقع، وحالة الوضع النفسي الذي خلفته في نفوس طرفي المواجهة، والآثار الإستراتيجية متوسطة وطويلة المدى لتلك الحرب.
وبمقياس هذه المعايير مجتمعة فإن نصر المقاومة قد تحقق، عظيما ومؤزرا، بما لا شك فيه إلا لدى أهل الجحود والنفاق الذين لا يفرحون إلا لمصائب الأمة وأتراحها.
فأي نصر أعظم وأجلى من أن تضع أكبر قوة إقليمية كل مقدراتها وطاقاتها، مسنودة في ذلك بدعم غربي وغطاء عربي لتنتزع من مجموعة محاصرة ومحدودة عددا وعتادا، الاعتراف بمجرد حقها في الوجود.. وتفشل في تحقيق ذلك!
__________________