الثلاثاء، 1 يناير 2002

حول "الوفاق الديمقراطي" بين شروط النجاح وأسباب التعثر


رأي حــر حول "الوفاق الديمقراطي" بين شروط النجاح وأسباب التعثر


يشكل اتفاق الأحزاب التونسية الأربعة، في السادس عشر من نوفمبر المنصرم، حدث السنة السياسية الجديدة بامتياز. فقد توجت جهود المعارضة الوطنية بـ"وفاق ديمقراطي" تاريخي يبشر بجمهورية فاضلة يستعيد فيها الشعب سيادته والمواطن كرامته والدولة هيبتها.
وبعيدا عن أجواء الحرب الإعلامية بين دكتاتورية متهالكة ومعارضة ترسم طريق الخلاص الوطني، يبقى الإشكال الرئيسي المطروح هو مدى قدرة هذا الوفاق على خلق الديناميكية اللازمة لإنجاز التغيير السياسي ووضع ركائز جمهوريتنا المنشودة.
 بادئ ذي بدء نستطيع القول أن مبادرة الوفاق تنفتح بنا على مسار انتقالي مختلف في استحقاقاته عن كل المسارات. وحيث أن أي مسار انتقالي هو بطبيعته جملة من القطائع والهزات والانكسارات، أي حالة ديناميكية مفتوحة على احتمالات شتى، وإذا سلمنا بحتمية المرحلة الانتقالية، فإننا نتحمل كوطنيين مسؤولية ترشيدها وتوفير الشروط الذاتية والموضوعية لتجاوزها بأكبر الغنائم وأقل الأضرار.
وفي هذه المحاولة المتواضعة، سوف نركز جهدنا، المفتوح دوما على النقد والمراجعة والتصويب، على مسألتين هما من الخطورة بمكان. تتعلق الأولى بالأسباب الممكنة للتعثر والثانية بشروط النجاح (نفضل الحديث عن تعثر لا عن فشل أو إخفاق لأن الأول يحمل معنى إمكانية التدارك في حين يرادف الثاني توقف المسار ومعاني القطيعة واللاعودة وخيبة المسعى):

I-                    في الأسباب الممكنة للتعثر:
تبقى جهود الإصلاح والتغيير، في كل المجتمعات والأزمنة، عرضة لعوائق كثيرة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي والثقافي بالسياسي والداخل بالخارج.
ولسنا هنا بصدد صياغة نظرية في شروط التغيير ومعوقاته، وإنما سوف نحاول إبداء الرأي فيما ارتأيناه من محاذير قد يؤدي وقوعها إلى تعثر في مسار التغيير تستفيد منه الدكتاتورية وحلفاؤها في الداخل والخارج. هذه المحاذير منها الافتراضي ومنها الناجز واقعا.

1- توحش نظام الحكم وتردد الغرب :
عادة ما يتساوق تهاوي الأنظمة الدكتاتورية مع تكثيف في ممارسة العنف المادي والمعنوي ليتحول القهر إلى استراتيجية تسخر لها كل أجهزة الدولة. فاستحقاق حفظ الأمن في البلاد يستوجب، في نظر السلطة، ردع كل نزوع نحو التمرد والخروج ولو أخذ شكل الفكاهة أو الإيحاء الأدبي البسيط. تتخلى الدولة لأجل ذلك عن وظيفتها المركزية كناظم للإجماع ومقر لتماسك اللحمة الوطنية واستثمارها جماعيا وتتمحض كليا لإنتاج للقهر والإخضاع عبر اختراق كل الفضاءات، من المواطنة إلى الإنسان.
وهذا تماما ما يحدث اليوم في تونس، فبعد، بل مع الدوس على قيم المواطنة وتجويفها من جميع أبعادها القانونية والأخلاقية هاهي حقوق الإنسان الأساسية تنتهك يوميا بشهادة المنظمات الحقوقية المحلية منها والأجنبية.
ولن يتردد نظام الحكم المتهالك عن ارتكاب أفظع الجرائم وأبشع الحماقات في حق المناضلين المعاندين باعتبارهم قطب الرحى في معركة التغيير.
 والحال أن "الوفاق الديمقراطي" يطرح نفسه كنواة لبديل مستقبلي، أي أنه يموقع نفسه صراحة في إطار القطيعة الكاملة مع النظام الحالي لا في مستوى التفاوض أو الحوار معه بعد أن أوصد هذا الأخير كل أبوابه، فإنه يتحول بذلك إلى خصم قوي وعنيد ينبغي استعمال كل الوسائل للفتك به والتخلص منه عبر تقويض أسس الوفاق التي انبنى عليها.
ويزيد الأمور تعقيدا تردد الغرب في دعم المسارات الديمقراطية خارج فضائه وإصراره على التعامل مع الأنظمة الدكتاتورية بل إسنادها وضخها بأسباب البقاء والاستمرار. لقد أسس سياسته الخارجية على معادلة فحواها أن الديمقراطية في الوطن العربي هي في أسوأ الأحوال رديف وصول القوى الأصولية للسلطة، وفي أقلها سوءا فك للتبعية تحرير للوطن والمواطن وانبعاث للروح القومية، ورأى فيها في كل الأحوال تهديدا لمصالحه وتقليصا من هيمنته ونفوذه.
فبالنسبة للغرب، تبقى الأنظمة الدكتاتورية راعية أمنه ومصالحه، لأنها تقبل بكل التنازلات المطلوبة منها مقابل حمايته لها. وهو يدرك تماما أنه لا ملجئ ولا منجى لها منه إلا إليه بعد أن فقدت ثقة شعوبها وأضحت مستودع غضبهم ونقمتهم.
وصول القوى الديمقراطية في تونس إلى الحكم يعني بالضرورة مراجعة كل الاتفاقيات المجحفة وإعادة التفاوض حولها بما يضمن حقوق جميع الأطراف ويحقق سلاما عادلا وتنمية مستديمة وحقيقية لشعبنا، وهذا ما لا تريده أغلب أجنحة الحكم المتنفذة في الغرب.
لذلك تبقى مقاومة الإرهاب شعارا يغذي أطماعا سياسية أكثر منها رسالة نبيلة توفر الأمن والطمأنينة في العالم. إنها لن تكون كذلك إلا إذا تم القضاء أولا على الأنظمة الدكتاتورية كخزان لتفريخ ظواهر الفقر والمحسوبية وانسداد الآفاق واحتكار المال والسلطة، باعتبارها الأسباب الحقيقية والمباشرة لانتشار ظاهرة الإرهاب.

2- النخبوية ونزوع الاكتفاء:
عادة ما تضطلع بمهمة التغيير قوى مثقفة على درجة متقدمة من الوعي بقضاياها القومية، وهي بالضرورة قوى أقلوية مهما كانت درجة الإسناد الشعبي المؤيد لها.
ولا ينكر أحد أن المعارضة التونسية هي معارضة نخبوية، لأسباب عديدة ليس هنا مجال تناولها. وفي نظرنا، ليست هذه النخبوية، كحالة موضوعية، عائقا خطيرا، بل الخطير هو أن تكون كذلك في توجهاتها وأهدافها الإستراتيجية أو حتى المرحلية.
وعلى الرغم من تأكيد جماعة "الوفاق" على انفتاح مبادرتهم لانضمام كل القوى الوطنية ومراهنتها على الإرادة الشعبية في إحداث التغيير المطلوب، فإن الخوف يبقى قائما من العجز عن تحويل اللازم إلى ممكن والخطاب إلى ممارسة نضالية تلامس هموم الناس وتفضي بهم إلى الانخراط الطوعي والميداني في مواجهة الدكتاتورية.
ولعله من سخرية الأقدار أن تكون فضيلة النظام الحاكم، هذا إن كانت له فضائل تذكر، هي انتشار ثقافة التشكيك في مصداقية الخطاب السياسي.
إنها في نظرنا فضيلة لكونها عامل دفع وحرص على إرساء قيم النزاهة والصدق والأخلاق الرفيعة في العمل السياسي. فالجماهير لا تنخرط إلا إذا أدركت جدية طلائعها فضلا عن مبدئية خطابها، فالانخراط مسؤولية خطيرة يتحدد عبرها المصير وتنحت من خلالها معالم حياة المستقبل.

3- غياب المبدئية والحسابات السياسوية:
يقوم "الوفاق الديمقراطي" على إجماع سياسي هو أشبه ما يكون بعقد اتجهت فيه إرادة المتعاقدين إلى تحقيق منافع مشتركة. وكأي عقد فإنه قد يتعرض عند التنفيذ إلى تشوهات ناتجة في جوهرها عن تغير في نية المتعاقدين.
وليس أخطر على العقد السياسي من الحسابات السياسوية التي تؤجل المصلحة الجماعية لفائدة المصالح الحزبية والفئوية. أما دواعي الانزلاق في مثل هذه الحسابات فكثيرة ولا يمكن حصرها، وليست قضايا القيادة والنظر إلى السلطة كغنيمة ينبغي الظفر منها بأوفر نصيب إلا مظاهرها القصوى.
ولعل ضمانة التنفيذ السليم لأي عقد تكمن في وضوح بنوده ودقة صياغتها بما لا يفسح مجالا أمام التأويلات التعسفية التي غالبا ما تفضي إلى نسفه.
وفي تصورنا، يتوفر "الوفاق الديمقراطي" على بنود واضحة بما لا يدع مجالا للشك في مبدئية مطالب القائمين عليه ووضوح تصورهم للخروج بالبلاد من أزمتها السياسية، غير أن النصح والتحذير من السقوط في فخاخ الذات والآخر يبقى واجبا وطنيا مناطا بعهدتنا جميعا.
وبعد هذا العرض الموجز لما ارتأيناه من أسباب ممكنة للتعثر أمام "الوفاق الديمقراطي" فإننا سنحاول في الفقرة الآتية الوقوف على أهم شروط نجاحه.

II-                  في شروط النجاح:
لكي يتمكن "الوفاق الديمقراطي" من إنجاز مهامه التاريخية في الإعداد للتحول الحقيقي لا بد من استجماع ديناميكيات ثلاث :

1- ديناميكية السياسي والإيديولوجي :
انبعث "الوفاق الديمقراطي" بمبادرة من أربعة أحزاب سياسية أهم ما يميزها هو عدم ارتكازها على مرجعيات إيديولوجية محددة.
يشكل هذا الأمر، في رأينا، عاملا إيجابيا ييسر من مهمة بناء الكتلة التاريخية الجديدة كأداة ضرورية لإنجاز التغيير الديمقراطي.
فالإيديولوجيا هي موضوعيا عامل من عوامل انقسام الاجتماع الأهلي ومن ثمة فهي تمثل مدخل الدولة الكليانية المتغولة لاختراق المجتمع المدني وإخضاعه عبر تغذية التمايزات التي تنتجها.
نخلص من ذلك إلى نتيجة مفادها أن تأجيل الصراعات الإيديولوجية هو من أوكد استحقاقات المرحلة الراهنة. وهو أمر يستوجب التخلي حتى عن شرط "الحد الأدنى للتحالف"، لأنه يتضمن معنى الالتقاء المستحيل وذلك عندما يطلب طرف إيديولوجي من آخر منافس له التنازل عن ثوابته العقائدية كمقدمة للعمل الجبهوي المشترك.
إن مهمة التغيير تستوجب استجماع كل منابع القدرة داخل المجتمع وبالتالي فإنها لا تحتمل قيدا أو شرطا عدى الالتزام بتنفيذ خطة العمل المشترك بأقصى النجاعة الممكنة.
وعليه، فالتحام الإيديولوجي بالسياسي أي التحاق الأحزاب والجماعات ذات المرجعيات الإيديولوجية بمنظومة "الوفاق الديمقراطي" هو أحد شروط النجاح الرئيسية التي يشكل غيابها عامل إعاقة في حركة التغيير.

2- ديناميكية الذاتي والموضوعي :
لن يستطيع "الوفاق الديمقراطي" التقدم في طريق التحقق والإنجاز دون التحامه بقضايا شعبه أي بواقعه الموضوعي.
ويعني ذلك أن الاستغراق في مشاغل الذات هو مدخل للعزلة والانفصام عن الجماهير.
وحيث أن "الوفاق الديمقراطي" قد طرح منذ التأسيس إشكاليات هيكلية تعانق هموم الناس اليومية وتلامس مستقبل وجودهم السياسي والاجتماعي، فإنه يكون بذلك قد رسم خطا نضاليا لا يمكنه النزول تحته.
فالذي يطرح مسألة "البديل" يتجاوز عمليا مرحلة نقد الأوضاع القائمة إلى مرحلة نضالية أرقى تهتم بالإعداد لاستحقاقات المستقبل فيما يتعلق أساسا بوضع قواعد اللعبة السياسية خلال المرحلة الانتقالية.
في مثل هذا المستوى من النضال السياسي يصبح طرح القضايا الحقوقية والمطلبية عموما من وظائف الجمعيات واللجان المختصة (رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، المجلس الوطني للحريات، وغيرها من الهيئات داخل البلاد وخارجها) أما طرحها في إطار "الوفاق الديمقراطي" فانحراف في المسار وانشغال بالقضايا الفرعية عن أم القضايا : قضية الديمقراطية.

3- ديناميكية الداخل والخارج:
في حمأة التجاذب والصراع بين الدكتاتورية الحاكمة والمعارضة الوطنية اضطر المئات بل الآلاف من المناضلين إلى مغادرة الوطن طلبا للكرامة والأمن.
وقد تمكن هؤلاء، وغالبيتهم من الحاصلين على حق اللجوء السياسي، من تحويل وجودهم في الخارج إلى مصدر قلق وإزعاج دائم لسلطات البلاد. كما ساهم التطور التكنولوجي والتسارع المذهل في حركة العولمة، ولا سيما الانترنيت، من إعادة التوازن المفقود بين نظام الحكم والمعارضة في مستوى سلطة الإعلام على الأقل.
فلا ينكر أحد الدور الذي تلعبه فضائيتا المستقلة والزيتونة وإذاعة المتوسط ومواقع تونس نيوز وتونس 2000 وسندباد وPerspectives ودوريتا Alternatives citoyennes و أقلام أون لاين الإلكترونيتين ومجلة الجرأة...الخ، في كشف الحقائق وتبديد أوهام الدعاية الرسمية الزائفة والأراجيف الكاذبة وفضح الألاعيب الخبيثة.

بل إن موقعا جديدا، هو www.tunisie2004.net يقدم نفسه على أنه فضاء لاختبار الديمقراطية افتراضيا تمهيدا لممارستها في الواقع. ويغمر المطلع على هذه المواقع شعور بأن الديمقراطية منه على مرمى حجر بعد أن تحررت أهم بواباتها ألا وهي سلطة الإعلام.
ومن خلال تفاعل مناضلي الداخل مع هذه الشبكات، ندرك حجم الدور الذي يمكن أن يلعبه التنسيق الميداني المؤطر وتوزيع الأدوار بين الداخل والخارج ضمن استراتيجية عمل وطني موحد.
فالخارج هو متنفس الداخل واستراحة المقاتل ووسيلته في حشد التأييد لـ"بديل المستقبل" ومحاولة استمالة أصدقاء الديمقراطية وأنصار الحرية في الغرب والشرق.
لقد كان لجولات زعماء التحرير إبان فترة الاستعمار المباشر دور مهم جدا لجأت إليه كثير من حركات التحرر في العالم لنيل استقلالها. ومع الانتشار الواسع اليوم للثقافة الديمقراطية وقيم الحداثة السياسية، أضحى هذا السلاح ذا فاعلية قصوى في معارك الاستقلال الثاني.
ليس أمام "الوفاق الديمقراطي" إذن إلا توثيق عرى التواصل والتنسيق مع مناضلي المهجر، فهم، فضلا عن كونهم رفاق الدرب وشركاء الوطن والقضية، عمق إستراتيجي فريد وخزان لمشاعر النقمة والغضب هو وقود المرحلة القادمة بامتياز.
 ختاما نقول بأننا اليوم في مفترق طرق بين منظومتين متناقضتين : منظومة 7 نوفمبر السوداء ومنظومة "الوفاق الديمقراطي" للخلاص الوطني الذي أوردنا، في هذه المحاولة المتواضعة، الأسباب الممكنة لتعثره وشروط نجاحه.
لقد أردنا التفكير والكتابة فيه جماعيا لأننا رأينا فيه بصيص الأمل وقارب النجاة في بحر متلاطم الأمواج، يتطلب وصوله بنا شاطئ الأمان تفعيل كل القيم الجميلة التي تعلمناها معا في مدارس الطفولة : المبدئية والتعاون، الشهامة والمروءة، الصبر والتضحية من أجل الآخرين، وخصوصا أن حب الوطن من الإيمان.
سليم بن حميدان

عماد الدائمي

شكري الحمروني

سامي القدي

عماد بن محمد
أعضاء في المؤتمر من أجل الجمهورية -   باريس